السبت، 18 فبراير 2012

أمن فاسد وإعلام محرض وجماهير جاهلة متعصبة‮: ‬ التركة القاتلة‮!‬




الخميس،‮ ‬اليوم التالي للمذبحة،‮ ‬كنت أسير مع الجموع الغاضبة في شارع طلعت حرب،‮ ‬وحتي التحرير،‮ ‬كنت مختلفا وأشعر باختلافي واختلاف المحيطين عن تلك المجموعة المميزة التي تحمل الأعلام وتكاد تتشابه حتي في الشكل والملامح‮. ‬صحيح كنا‮ ‬غاضبين ولكن‮ ‬غضبهم كان مختلفا،‮ ‬صحيح كنا نهتف ولكن كان‮ ‬يمكن تمييزهم هم فقط عن كل المحيطين‮. "‬يوم ما أبطل أشجع هكون ميت أكيد‮" ‬شعارهم الذي تحقق بالحرف‮. ‬بعد جولتين في الميدان استطاعوا أن‮ ‬يقنعوا كل المتواجدين بأن‮ "‬البورسعيدية قتلوا الأهلاوية‮" ‬شعار آخر ويافطة كبيرة وإيمان لا‮ ‬يتزحزح بأن جماهير بورسعيد هي التي اقتحمت الملعب وهي التي قتلت وسحلت وألقت‮ ‬76‮ ‬مشجعا أهلاويا من فوق الاستاد بدم بارد،‮ ‬صحيح وقف الأمن متفرجا لكنهم‮ ‬يعرفون لماذا،‮ ‬فهم‮ ‬يدفعون الآن ضريبة مشاركتهم في الثورة،‮ ‬كان‮ ‬يمكن أن تجادل وأن تطرح وجهك نظرك أيا كانت ولكنها لم تكن لتصمد أمام إصرارهم وعنادهم وقدرتهم علي الإقناع‮. ‬يقفون في الميدان‮ ‬يتلقون المواساة ودعوات الصبر وفي عيونهم ذهول وتساؤل حزين‮..‬هل أصبحنا نعيش زمانا‮ ‬يموت فيه الإنسان لمجرد أنه‮ ‬يحب كرة القدم؟‮!

بالتأكيد ثمة ثأر معروف بين مجموعات الألتراس وقوات الداخلية التي عملت علي الحفاظ علي نسق‮ ‬غير إنساني في التعامل مع المشجعين،‮ ‬باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة،‮ ‬ليست لهم حقوق طالما أنهم داخل أسوار الاستادات،‮ ‬وبالتأكيد أيضا هناك عداء تاريخي بين جماهير الأهلي والمصري،‮ ‬يعرفه أصغر مشجع للكرة في مصر،‮ ‬إذن كانت جماهير الأهلي محاصرة بالكُراهية من كل جانب،‮ ‬الكراهية متبادلة والسوابق كثيرة لا مجال لحصرها هنا،‮ ‬كراهية‮ ‬غذتها آلة إعلامية لا تعرف المهنية علي الإطلاق،‮ ‬فهؤلاء الذين يعلنون الحداد الآن في القنوات الفضائية المسماة عبثا بالرياضية،‮ ‬أشبه بمن‮ "‬يقتل القتيل ويمشي في جنازته‮" ‬التعصب صنيعتهم بامتياز،‮ ‬وهم الأولي الآن بالمحاكمة‮.‬
فشل أمني وإحباط
الحدث لا يمكن تجريده من السياسة،‮ ‬خاصة بعد تسريب‮ ‬معلومات عن تورط أعضاء في الحزب الوطني المنحل،‮ ‬هو إذن النظام القديم يطل بوجهه القبيح مرة أخري‮ "‬المسألة مدبرة تماما‮" ‬يقول‮ ‬د.شاكر عبد الحميد‮ ‬وزير الثقافة،‮ ‬وعدم إعلان أسماء المتهمين الذين رأيناهم علي الهواء مباشرة هو في نظره نوع من‮ "‬العبث‮". ‬يؤمن وزير الثقافة بأن البطء في إعلان أسماء المتهمين يزيد من الشكوك‮ "‬الحدث أذيع علي الهواء وكان يجب إعلان المتهمين في نفس اليوم،‮ ‬فمن رأيناهم لم يكونوا كائنات فضائية تبخرت بعد الحادث،‮ ‬بالتأكيد هناك من يعمل في الخفاء ويقصد إحداث هذا الارتباك‮". ‬أسأله‮: ‬كيف تنظر للدعاوي التي ظهرت بعد الحادث،‮ ‬والتي اعتبرت كرة القدم نوعا من‮ "‬اللهو الحرام"؟‮! ‬ويجيب‮: ‬هذه المقولات ليست جديدة ودائما هناك آراء من هذا النوع في الفن والرياضة وغيرها،‮ ‬والالتفات إلي هؤلاء مضيعة للوقت،‮ ‬فكرة القدم حاليا أشبه بعالم متكامل‮ ‬وليست مجرد رياضة‮- ‬فعلي هامشه وفي داخله مؤسسات كبري تدفع مبالغ‮ ‬طائلة لربط منتجاتها بأهم أحداث عالم الكرة‮. ‬كرة القدم نوع راق من أنواع الصراع-يضيف‮- ‬بعد أن كان في الماضي بين الجيوش تحول لحرب بين الشركات الكبري والماركات العالمية التي تسعي لربط منتجاتها بالفرق وأشهر اللاعبين،‮ ‬وبعض علماء النفس يشبهون الكرة بمشاهد الحرب القديمة،‮ ‬ففي المباريات الهجوم والدفاع والكر والفر وهناك العنف أيضا،‮ ‬ومنتصر ومهزوم وجماهير تحتشد وتشجع مثل تلك الجماهير القديمة،‮ ‬التي كانت تحتشد في الكوليزيوم لتشاهد العبيد وهم يتصارعون مع الأسود‮. ‬والملعب أشبه بالمسرح فكما يعطي المسرح‮ "‬خبرة بديلة‮" ‬لأنه يتناول الأحداث الجسام تقدم كرة القدم‮ "‬العنف البديل‮" ‬الذي يحدث للآخرين فيتوحد معهم المشاهدون كما يتوحدون مع الممثلين،‮ ‬فيحدث ما يسمي بالإشباع البديل،‮ ‬حين يفرغون انفعالاتهم في نهاية العرض ونهاية المباراة وتسيطر في كرة القدم كما في المسرح مشاعر الخوف والشفقة والمتعة وإثارة التوقعات وإشباعها أو إحباطها‮.‬
كرة القدم ترتبط أيضا بروح الصخب والعنف والبهجة والمرح والغضب،‮ ‬وبما يسمي‮ "‬الروح الكرنفالية‮" ‬القديمة التي تحدث عنها باختين،‮ ‬حيث يحمل المنتصر علي الأعناق ويجرس المهزوم،‮ ‬ونجد الفخر والتباهي بالنسبة للمنتصرين والمتوحدين معهم،‮ ‬والتهكم والتحقير والتجريس والشعور بالعار بالنسبة للمهزومين ومن يتوحون معهم،‮ ‬وهكذا تمثل كرة القدم نوعا من الثقافة الشعبية المتحررة من الخوف،‮ ‬ثقافة الكرنفال حيث الأقنعة والضحك والبهجة والأعلام والأبواق وكل ما يرتبط بأشكال التصريف الحديثة للعنف أو التنفيث العصري عن الطاقات والغرائز العدوانية القديمة،‮ ‬التي لو تراكمت لأصبحت ضارة اجتماعيا،‮ ‬وهو ما حدث علي أرض استاد بورسعيد‮.‬
المسالة برمتها بحسب تحليل الكاتب والمحلل السياسي‮ ‬عز الدين شكري‮ ‬‮"‬فشل أمني‮" ‬سواء كان متعمدا أو لا،‮ ‬والفشل الأمني يستوجب العقاب،‮ "‬فعندما حدثت كارثة الأقصر،‮ ‬لم يتهم‮ ‬حسن الألفي‮ ‬بأنه وراء الحادث لكن تمت الإطاحة به،‮ ‬وهو شكل من أشكال العقاب نتيجة لتقصيره في حماية المواطنين،‮ ‬وهي وظيفته الأساسية‮". ‬لكن هل كان الأمن طول سنوات حكم مبارك يقوم بهذا الدور فعلا؟ أسأل ويجيب شكري‮: "‬كان يقوم بهذا وفق مفهوم خاص عن فكرة الحماية،‮ ‬مثلا كل الأجهزة الأمنية في العالم لديها فكرة التدرج في استخدام القوة،‮ ‬نحن ليس لدينا هذا الأسلوب،‮ ‬ما يعرفه رجل الأمن هنا هو إما أن تطيعني أو أقتلك،‮ ‬وهذا هو الميراث الحقيقي الذي ورّثه النظام السابق للأمن وللمواطن علي السواء،‮ ‬فتركة مبارك الحقيقة هي الخنوع وسيطرة الأمن،‮ ‬بما جعلنا نسلم أعناقنا للأمن دون أن نناقشه حتي لو كان علي خطأ،‮ ‬فهل يسأل أحد رجل المرور الذي يأمرنا بأن تتحرك أو تتوقف‮.. ‬لماذا؟‮".‬
التركة لم تتوقف عند هذا الحد،‮ ‬فهل من الطبيعي إذا استثنينا الفرضية الجنائية،‮ ‬أن يقتل مشجع آخر فقط لأنه يشجع فريقا مختلفا،‮ ‬كل هذا العنف في عموم مصر بحسب تفسير‮ ‬د.خليل فاضل‮ ‬استشاري الطب النفسي ماهو إلا عرض وانعكاس للأزمات الاجتماعية‮ "‬فالبيئة المحيطة بكل سلبياتها وتوحشها تؤثر علي كيمياء المخ العصبية،‮ ‬فتولد الجنون والحماقة والقتل والاغتصاب لدي أفراد،‮ ‬ليس لديهم أي استعداد وراثي ولا شخصي‮. ‬ولا نملك شبكة من"المعرفة والقوة‮" ‬تمكننا من الرصد والعلاج والوقاية ممن يستمتعون بإراقة الدماء وبالرشوة والفساد كذلك‮ "‬إن ذلك التوتر المجتمعي الذي نعاني منه الآن شديد جدا ونحن نزحف بالفعل علي أرض ثلجية،‮ ‬ببطن رخوة وعضلات واهنة‮".‬
بكلمات أوضح يقول د.خليل أن كل إنسان بداخله الخير والشر،‮ ‬والأنا الأعلي هي المنظم والمحرك لهذه القوي داخل الإنسان،‮ ‬وإذا جرد الإنسان منها دفن إنسانيته،‮ ‬وهذا بالضبط ما حدث،‮ ‬فهؤلاء دفنوا أنفسهم في التعصب،‮ ‬إضافة إلي الإحباط العام،‮ ‬والغل الكامن في النفس من إحباط الحياة اليومية،‮ ‬ومن تجاهل متعمد من النظام القديم،‮ ‬ففي الوقت الذي كان يحصل فيه‮ "‬الأهلي‮" ‬القاهري علي كل شيء،‮ ‬كان الرئيس السابق يكره المدينة وناسها،‮ ‬ولم يحقق فريقها أي إنجاز،‮ ‬ولم يتغير هذا الوضع‮  ‬منذ‮ ‬11‮ ‬فبراير الماضي،‮ ‬لهذا نلاحظ مثلا ارتفاع سقف الاعتراض علي سياسة العسكري من‮ "‬الجيش والشعب إيد واحدة‮" ‬إلي‮ "‬الشعب يريد إعدام المشير‮". ‬يضيف فاضل أن الصورة العامة التي تتصدر المشهد حالياً‮ ‬هي الغياب الأمني والانفلات،‮ ‬إضافة إلي المشاهد المخزنة في الذاكرة عن حوادث العنف السابقة،‮ ‬فالجنود رموا جثث الشهداء في صندوق الزبالة ولم يحدث شيء،‮ ‬إذن نحن في‮ ‬غابة ولا يوجد رادع فما المانع من تكرار الأمر؟،‮ ‬هذا كله تدعمه حالة‮ "‬عمي هيستيري‮" ‬لرجال الشرطة،‮ ‬يجعلها في حالة خوف شديد،‮ ‬تري الضحية وكأنها العدو‮.‬
كلهم أوغاد
الأمن يري في الالتراس العدو فعلا،‮ ‬وفي المقابل فإن عقيدة‮ ‬الالتراس تقوم علي أن كل رجال الأمن أوغاد،‮ ‬فهناك تاريخ من العداء بحسب‮ ‬محمد جمال‮ ‬صاحب كتاب‮ "‬الألتراس‮" ‬يعود إلي شهور مضت‮. ‬تحديدا في ‮٢٢ ‬يناير سنة ‮٢٠١١ ‬حين ظهر فيديو علي موقع يوتيوب مجهول المصدر يطمئن العازمين علي النزول يوم ‮٢٥ ‬والمتخوفين من عنف الشرطة وقمعها،‮ ‬أن هناك فصيلا مصريا قادرا علي حمايتهم في الشارع،‮ ‬مستعرضا مصادمات المجموعات المصرية،‮ ‬وخاصة المحسوبة علي الأهلي والزمالك مع الشرطة،‮ ‬مختتماً‮ ‬مشاهده بصدام أمني،‮ ‬حدث قبل أيام،‮ ‬بين جماهير نادي الاتحاد الشرطة،‮ ‬خلال مباراة كرة سلة حيث هتفت وقتها الجماهير‮ "‬تونس‮" ‬في إشارة إلي أنهم سيواجهون نفس المصير عما قريب‮.‬
من هنا وتحديدا في يوم ‮٢٤ ‬بثت عدة صفحات علي موقع التواصل الاجتماعي‮ "‬فيسبوك‮" ‬مثل صفحة‮ "‬كلنا خالد سعيد‮" ‬وصفحة‮ "‬حركة ‮٦ ‬ابريل‮" ‬رسائل تبشر فيها الشعب المصري بنزول مجموعات الألتراس للمظاهرات ‮٢٥ ‬يناير،‮ ‬بعد أن علمت بذلك من مصادرها الخاصة داخل المجموعات‮. ‬وفي عصر يوم ‮٢٥ ‬يناير استطاع المتظاهرون تحديد هوية مجموعة من الشباب،‮ ‬محسوبين علي مجموعات الألتراس،‮ ‬من طريقة وأسلوب تحركهم وملابسهم في الاشتباكات،‮ ‬التي بدأت عصر هذا اليوم،‮ ‬بطول شارع قصر العيني‮. ‬هناك تبادل الجانبان إلقاء الحجارة والاشتباك بالأيدي‮. ‬كان هدف المتظاهرين الوصول لوزارة الداخلية وتصعيد المظاهرات أكثر‮.‬
ولم تخفت حدة المواجهات مع الشرطة‮.. ‬وقتها عمل أفراد المجموعات يومي ‮٢٦ ‬و ‮٢٧ ‬يناير علي تصعيد المصادمات في عدة مناطق،‮ ‬مثل بولاق ومنطقة وزارة الخارجية والجيزة وشبرا،‮ ‬وبالتوازي كان الأمر يتم في محافظات أخري،‮ ‬مثل الإسكندرية،‮ ‬هناك كان لمجموعات الألتراس دور هام في معارك القائد إبراهيم،‮ ‬كذلك مدينة السويس التي استشهد بها،‮ ‬في هذا التوقيت،‮ ‬أول شهداء الألتراس والسويس الشهيد‮ "‬محمد مكوة‮" ‬بعد مواجهات قوية في ميدان الأربعين،‮ ‬سقط علي أثرها شهيدا ليخرج جثمانه يوم ‮٢٨ ‬مشعلا شرارة الثورة أكثر وأكثر‮.‬
شمروخ
الجميع يتذكر مشهد إشعال النار في إحدي المدرعات بواسطة‮ ‬‮ "‬شمروخ‮" ‬في ميدان التحرير ليلا،‮ ‬ذلك المشهد الذي تكرر في العديد من الشوارع الجانبية حيث اهتم عدد من أفراد الألتراس بإشعال النار في عربات الجنود الفارغة،‮ ‬وسرقة الذخيرة منها،‮ ‬قنابل‮ ‬غاز،‮ ‬ورصاص مطاطي،‮ ‬للتخفيف من الضرب المستمر علي المتظاهرين‮. ‬ولعل أكبر ظهور لمجموعات الألتراس متعاونين كان ليلة معركة الجمل،‮ ‬حيث كانوا في الصفوف الأمامية،‮ ‬في تحصينات تقاوم دخول البلطجية إلي الميدان،‮ ‬وتعمل علي تأمين الشوارع الجانبية من أي هجوم،‮ ‬وهي المعركة التي أصيب فيها عدد كبير منهم‮.‬
لم تتوقف المشاركات عند هذا الحد،‮ ‬مجموعة التراس وايت نايتس ظهرت في التظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية،‮ ‬ووسط هذا كله ارتفعت حدة تكهنات الخبراء بمشاركة سياسية متوقعة،‮ ‬ما يخالف الحقيقة تماما،‮ ‬كما يؤكد محمد،‮ ‬فمجموعات الألتراس المصرية هي مجموعات‮ ‬غير سياسية،‮ ‬والمعروف دوليا أن هناك ثلاثة تصنيفات للألتراس والسياسة في العالم،‮ ‬مجموعات يسار أو ما يطلق عليهم‮ "‬أنتيفا‮" ‬وهي مجموعات تأسست علي خلفيات سياسية يسارية لأفرادها أو المدينة والمنطقة التي يعيشون فيها،‮ ‬ومجموعات اليمين التي في العادة تكون عنصرية شديدة
التطرف،‮ ‬ومجموعات‮ ‬غير مسيسة نتيجة لعدم توافقية أفرادها علي اتجاه سياسي محدد‮. ‬ذلك النوع الذي تنتمي إليه أغلب مجموعات الألتراس المصرية،‮ ‬والذي يمنعها من المشاركة سياسيا،‮ ‬ويجعلها تقف عند حد المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية وحد المشاركة المجتمعية لأفرادها‮. ‬
ساحات الحرب
إذا كان العداء مع الشرطة مفهوما الآن،‮ ‬فإن السؤال الذي‮ ‬يسأله الناس حالياً‮: ‬كيف لرجل عادي أن يأتي بفعلة دموية كتلك؟ نعود للدكتور خليل الذي يقول إنها في تفسيرها العلمي مزيج من الفصامية والغضب المكتوم،‮ ‬بجانب أن معظم تلك الحالات يكون فيها القاتل‮ "‬منقوعا‮" ‬محقونا ومحتقنا بالكراهية ومربوطا‮ "‬من ساسة لرأسه‮" ‬بحبل مليء بالعقد المتوترة والقلقة،‮ ‬إنها تلك الروح‮ ‬غير المستقرة،‮ ‬الإحساس العام بالتصدع القادم،‮ ‬الرهبة من زلزال النفس وعنفها،‮ ‬ترقب لحظة الانهيار الكامل،‮ ‬ثم الراحة الصافية المنشودة،‮ ‬التوق إلي الانعتاق من عالمة الجواني الجهنمي‮.‬
للدكتور خليل‮ ‬بحث كامل حول ظاهرة العنف في ملاعب كرة القدم،‮ ‬يؤكد فيه أن العنف في حد ذاته ظاهرة طبيعية مرتبطة بالإنسان ككائن حي،‮ ‬فمن المعروف أن الإنسان أكثر الفقاريات عدوانية،‮ ‬العنف يحدث في المدرسة،‮ ‬في الشارع،‮ ‬في المقهي،‮ ‬في ملاعب الكرة،‮ ‬في ساحات الحرب،‮ ‬في ألعاب الفيديو والكومبيوتر والإنترنت،‮ ‬وبالطبع علي شاشات السينما والتلفزيون،‮ ‬العنف سلوك معقد ينبع من مصادر كثيرة متشابكة،‮ ‬بعضها اجتماعي والآخر بيئي،‮ ‬وبعضها نتيجة التعلم من الآخرين ومحاكاتهم،‮ ‬وأحيانا يكون نتيجة لمرض نفسي،‮ ‬ففي حالات اضطراب الشخصية تزيد العدوانية،‮ ‬الاهتياج،‮ ‬التبرم،‮ ‬الضيق‮. ‬وبشكل عام فإن روح التنافس هي التي تخلق الإثارة،‮ ‬لكن التنافس يمكن أن يكون في تنسيق الزهور وطهي الطعام مثلا،‮ ‬لكن في كرة القدم فالمغامرة في التعقب والمطاردة،‮ ‬الجري،‮ ‬القفز،‮ ‬ومع تطور التكنولوجيا الحديثة،‮ ‬مع عصر التلفزيون والأقمار الصناعية،‮ ‬ومع النمو السكاني زادت حدة التوتر الاجتماعي وحل الغضب محل التسامح وعمت الفوضي ملاعب الكرة والساحات والشوارع وداخل البيوت،‮ ‬وبرزت علي السطح تلك المجموعة المعتلة نفسيا،‮ ‬المصطلح عليها بالإنجليزية‮: (‬الهوليجانز‮) ‬التي تذهب إلي مباريات كرة القدم تبحث عن‮ ‬غريم تقتله وعن رجل شرطة تقذفه بالحجارة‮.‬
اللعبة تستعيد تاريخها الدموي
في كتابه‮ "‬كرة القدم بين الشمس والظل‮" ‬يكتب‮ ‬إدوارد جاليانو‮ ‬عن جدارية تعود إلي ما يزيد علي ألف سنة،‮ ‬تظهر واحدا من أجداد هوجوسانتشيز(لاعب مكسيكي شهير‮) ‬وهو يلعب كرة بقدمه اليسري،‮ ‬وعندما ينتهي اللعب كانت الكرة تنهي رحلتها‮: ‬فالشمس قد وصلت إلي الفجر بعد أن اجتازت منطقة الموت‮. ‬عندئذ ولكي تطلع الشمس،‮ ‬كانت تراق الدماء،‮ ‬وحسب رأي بعض العارفين كان من عادة الازتيك التضحية بالفائزين وتقديمهم قرابين،‮ ‬وقبل أن يقطعوا رؤسهم كانوا يطلون أجسادهم بخطوط حمراء وكان المختارون من الآلهة يقدمون دماءهم قربانا لكي تكون الأرض خصبة والسماء سخية‮!‬
علي أقدام الرومان القدماء وصلت البدعة‮ -‬كرة القدم‮- ‬إلي الجزر البريطانية،‮ ‬وبعد قرون من ذلك وتحديدا في عام‮ ‬1314‮ ‬مهر الملك إدوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة‮ "‬هذه الاشتباكات حول كرات كبيرة،‮ ‬التي تنتج عنها شرور كثيرة لا يبيحها الرب‮" ‬وكرة القدم التي كانت تسمي بهذا الاسم منذ ذلك الحين،‮ ‬كانت تخلف أعدادا من الضحايا،‮ ‬فقد كانوا يتنافسون في جماعات كبيرة فلم يكن هناك تحديد لعدد اللاعبين ولا لمدة اللعب،‮ ‬ولا أي شيء آخر‮ "‬كان شعب بكامله يتبادل ركل الكرة ضد شعب آخر،‮ ‬يدفعونها بالأقدام والقبضات نحو الهدف الذي كان في ذلك الحين عجلة طاحونة كبيرة،‮ ‬وكان اللاعبون يصطفون علي امتداد عدة فراسخ،‮ ‬ولعدة أيام،‮ ‬وبتكلفة تصل إلي عدة أرواح بشرية‮" ‬وقد منع الملوك هذه المباريات الدموية ففي عام‮ ‬1349‮ ‬ضم الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلي‮ "‬ألعاب الحماقة التي ليست لها أي فائدة‮" ‬وهناك مراسيم ضد كرة القدم ممهورة بتوقيع هنري الرابع في عام‮ ‬1410‮ ‬وهنري السادس في عام‮ ‬1547‮ ‬ولكنهم كلما كانوا يمنعونها كان اللعب يزداد،‮ ‬ما يؤكد القدرة التحريضية لكل ما هو محظور‮.‬
التاريخ الحديث حافل بالأمثلة أيضا ففي كأس العالم التي أقيمت بألمانيا كانت الملاعب كلها مؤمنة بالطائرات،‮ ‬والمشاهدون مؤمنون بالبوابات الاليكترونية،‮ ‬وكان من بين الإجراءات الأمنية تصوير وجوه جميع المشجعين أثناء المباريات وأخذ بصمات أصابع المشتبه بهم،‮ ‬والذي قدر عددهم مبدئيا ب200‮ ‬ألف شخص‮! ‬أما التذاكر المبيعة فدونت عليها أسماء وبيانات حاملها لمراقبتها بأجهزة محمولة،‮ ‬كما تم استخدام الإنسان الآلي للكشف عن الأسلحة في المدرجات‮.‬
كل هذا يؤكد أن كرة القدم خرجت عن إطارها كلعبة لتتحول إلي حرب أو علي الأقل إلي تمثيل للحرب،‮ ‬فقد حاولت ألمانيا من خلال تنظيم البطولة تناسي آلام الماضي،‮ ‬وأن تتفوق علي نفسها لتثبت للعالم أن ألمانيا الموحدة أفضل كثيرا من ألمانيا المنقسمة،‮ ‬التي استضافت كاس العالم سنة‮ ‬1974،‮ ‬والتي تعد البطولة الأكثر أهمية بعد الحدث الذي وحّدها،‮ ‬حين سقط جدار برلين‮. ‬يري البعض في كرة القدم تعويضا لنقص لا يمكن نسيانه أو التغاضي عنه يصدق هذا علي الأفراد وعلي الشعوب أيضا،‮ ‬هناك من يراها تعويضا عن خيبات كثيرة،‮ ‬وأحد أهم مصادر تفريغ‮ ‬الانفعالات،‮ ‬ومنهم من رأي أن شعبية كرة القدم تأتي من كونها إحدي صور الحرب والصراع،‮ ‬التي كانت تمارس بصورة‮ ‬غريزية في المجتمعات القديمة،‮ ‬وأن ما يحدث في المباريات هو امتداد للحروب والكفاح الذي كانت تمارسه الجماعات المتحاربة في العصور القديمة‮.‬
يد الله
د.محمد عبد المنعم‮ ‬أستاذ علم الاجتماع يري أن هناك ثلاث‮ ‬عمليات أساسية تتحكم في تعامل البشر،‮ ‬هي التعاون والتنافس والصراع‮. ‬وكرة القدم تتجسد بها العمليات الثلاث فهي تستخدم التعاون في عمليه تنافسية لاستبدال الصراع بين الدول والجماعات،‮ ‬وبالطبع يستخدم فيها الصراع،‮ ‬فمن خلالها تتنافس الشعوب وتستخدم فيها الأسلحة‮ -‬المجازية‮- ‬كالحروب النفسية والاقتصادية ثم الصراع داخل الملعب نفسه ومحاولات الدفاع والهجوم‮ . ‬
كرة القدم أيضا تعكس تطور الدول والتبادل اللامتكافئ وعدم العدالة والهيمنة الثقافية‮. ‬يظهر هذا كله عندما تقابل دولة كبري متقدمة أخري ضعيفة نامية فيظهر التفاوت علي الفور في خطط اللعب وإمكانيات اللاعبين والأسلحة المتاحة لهم،‮ ‬وقبل كل شيء فكل المؤشرات تقول‮ ‬كما في السياسة‮- ‬بحصول هذه الدولة علي الكأس وحصول الأخري علي لاشيء‮.‬
هناك نظرية أخري تري في كرة القدم‮ "‬تخليصا للثأر‮" ‬كما حدث مع انجلترا والأرجنتين علي سبيل المثال،‮ ‬ففي فترة الحرب الطاحنة بينهما،‮ ‬بسبب جزر فوكلاند،‮ ‬أقيمت بطولة كأس العالم وأوقعت الجداول الدولتين في المواجهة،‮ ‬فاعتبرت جماهير الفريقين أن هذه المباراة بمثابة الأخذ بالثأر،‮ ‬وفي هذه البطولة ظهر مارداونا وأحرز هدف فوز الأرجنتين بيده وأقصي انجلترا خارج المونديال وعندما سُئل عن الهدف اعترف بأنه لم يكن صحيحا،‮ ‬وقال جملته الشهيرة أنها لم تكن يده بل‮ "‬يد الله‮" ‬التي أرادت الانتقام من الإنجليز‮.‬
الانتماء للجماعة
د.أحمد عبدالله مدرس‮ ‬الطب النفسي اعتبر كرة القدم‮ "‬حروبا‮ ‬غير مباشرة‮" ‬حيث تشابهت الحروب مع كرة القدم وحالياً‮ ‬بالتحديد،‮ ‬فبعد أن كان دورنا في الحروب هو الالتحام والتخطيط والضرب أصبحنا متفرجين عبر الشاشات التي تذيع الحروب علي الهواء مباشرة فتداخل كل شيء،‮ ‬ربما لذلك تغير فكر الحرب وأصبحت الحرب والكرة شيئاً‮ ‬واحداً‮ ‬حتي أن الكرة تستخدم نفس المصطلحات الخطط والهجوم والدفاع والمناورة‮..‬الخ وعلي هذا انقسم العالم إلي منفذين ومتفرجين واخترنا دور المشاهدين حتي عندما نلعب مع الدول الكبري فان المركّب التعويضي يكون هو السائد‮.‬
كما أن كرة القدم تتبني فكرا من أهم أفكار النفس البشرية وهو فكر التقسيم فباعتبار المباريات حروبا افتراضية ستحمل طاقات عدوانية تجاه الآخر،‮ ‬والذي يكفيه أن يكون ضد الفريق الذي نحبه ليضع نفسه في الكفة المكروهة والمنبوذة من طرفنا،‮ ‬فمثلما يري بطل‮ "‬موسم الهجرة إلي الشمال‮" ‬للطيب صالح،‮ ‬أن الانتماء يكون للجماعة سواء كانت داخل الوطن أو خارجه نري أنفسنا أكثر اقترابا من مجموعتنا التي أصبحنا ننتمي إليها ربما بالمصادفة‮ (‬كان يقرر بعض الأطفال أن يلعبوا معا دون أن يعرفوا بعضهم‮) ‬ونريد لهذه الجماعة النصر،‮ ‬وبالعكس سنحمل للجماعة الأخري مشاعر سلبية،‮ ‬من دون أن يصدر منهم ما يبرر ذلك،‮ ‬سوي أنهم ضد جماعتنا‮.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق