الأحد، 19 فبراير 2012

الدســـــــتور‏..‏ صناعة قانونية أم صياغة مجتمعية؟


في‏17‏ يونيو‏1930‏ صرخ النائب الوفدي عباس محمود العقاد تحت قبة البرلمان في سياق معركته مع وزراة اسماعيل صدقي والملك فؤاد ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق اكبر راس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته‏.
أنا أقول ومازلت أكرر أننا جميعا مستعدون للتضحية في سبيل المحافظة علي الدستور ومقاومة كل من يعبث به
وبعد يومين من كلمته التي تردد صداها في جنبات أول وأقدم برلمان عرفته المنطقة العربية, أكد العقاد_ عملاق الأدب العربي فكرته عندما كتب قي صحيفة كوكب الشرق مقالا قال فيه صراحة إن البلاد مستعدة لان تسحق كل رأس يخون الدستور.
و بغض النظر عن تداعيات تصريح العقاد بآرائه ودفاعه عن حق من حقوق الأمة,( الأمر الذي أدي لسجنه تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية) فإن كلمات عملاق الأدب الموحية ومواقفه الواضحة من قضايا الوطن ورفضه لتولي منصب وزاري ثلاث مرات( في الأعوام:1928 و1930 و1940) تطرح أكثر من سؤال وقضية تتماس مع واقعنا في هذه اللحظة الفاصلة في عمر الوطن. فلم يكن النائب الأديب عباس محمود العقاد ولا البعض من أبناء جيله ممن جمعوا بين الأدب والعمل البرلماني والحزبي حالة متفردة في ذلك الزمن, بل كانوا امتدادا واضحا لأجيال من المبدعين والمفكرين الذين لم يكتفوا بالتحليق في عوالم الخيال,فقرنوا القول بالفعل وغاصوا بأقدامهم في أوحال الواقع وجاهدوا للخوض فيها ومحاولة إزاحتها لإنقاذ الأمة وعموم المصريين. كان العقاد حلقة في سلسلة طويلة, وإن اختلفت في ألوانها وأساليبها وبنيتها الفكرية, ينتظم في حلقاتها الصحفي والمسرحي المشاغب يعقوب صنوع ورب السيف والقلم محمود سامي البارودي والشيخان المجددان عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومسحراتي مصر عبد الله النديم, وجيل ثان من بين رموزه د. محمد حسين هيكل وأمين الرافعي وطه حسين ولطفي السيد وعبد القادر حمزة وتوفيق دياب وفكري آباظه وغيرهم, ممن لم يكتفوا بالتنظير والإبداع, فخاضوا غمار العمل السياسي علي المستوي الحزبي والبرلماني, أو علي أقل تقدير حاولوا أن يطبقوا ما يؤمنون به عمليا علي أرض الواقع من خلال العمل المؤسسي سواء في الجهاز الحكومي أو الجامعة.
ولا أظن أننا نتزيد إذا ما قلنا إن مشاركة المبدعين والمفكرين في تلك الفترة في العمل السياسي وانضمامهم للبرلمان المصري قد أضفي بعدا جديدا علي الفكر والمنظومة السياسية الحاكمة للبلاد وخرجت بنا من إطار تأليه ولي النعم وتقبيل الأيدي إلي مرحلة مختلفة لا يكون فيها الولاء لشخص الحاكم, بل للفكرة والدستور الحاكم ومصالح الأمة. فبقدر انزعاج السياسي المخضرم أحمد ماهر, رئيس المجلس آنذاك, من صرخات العقاد تحت قبة البرلمان وتهديده السافر للملك فؤاد, بقدر جرأة العقاد ووضوح رؤيته ومحاولته لإرساء قاعدة دستورية. في ذات السياق نتذكر تصدي البرلماني العتيد فكري أباظة لسلبيات المجتمع المصري ليس فقط في كتاباته الصحفية وأحاديثه الإذاعية, بل أيضا كنائب برلماني مفوه بمجلس النواب المصري منذ عام1923 وكعضو في الحزب الوطني المصري ومشاركة طه حسين والعقاد في دستور.54
فإذا ما استرجعنا بعضا من الأدبيات التي تناولت دور الفن والمبدعين والمفكرين في سياق تطور المجتمعات البشرية, تطالعنا الكثير من القراءات التي تصف الإبداع الفكري والأدبي بأنه نبوءة بالمستقبل وحافز للابتكار والخروج عن الصور النمطية والرؤي التقليدية, فيفتح الطريق أمام الإنسان,أيا كان موقعه جغرافيا, لابتكار حلول لمشكلات الحاضر ويثريه وجدانيا وعقليا ومجتمعيا, بما يتيح له وللمجتمع ككل تحقيق مستقبل أفضل يتجاوز حدود وقيود الواقع الراهن.
ومع ذلك فإننا إذا ما قفزنا للأمام لنطالع المشهد المصري الحالي ستطالعنا مجموعة من المشاهد المناقضة لكل ما تقدم. تفاجئنا صورة لبرلمان يخلو من المبدعين(مثلما كاد يخلو من المرأة) وبرامج حزبية غاب فيها البعد الثقافي ونقاش حول اختيار أعضاء لجنة لوضع الدستور لم يأت فيه ذكر أو تطرح خلاله فكرة الاستعانة بعدد من رموز الفكر والثقافة المصرية ليدلوا بدلوهم في سطور كتاب حياة المصريين والعقد الاجتماعي الجديد الذي سيحكم حياتهم لسنوات قادمة. وعند هذا الحد أظن أننا إزاء سؤال يفرض نفسه, هو: هل الدستور..صناعة قانونية أم صياغة مجتمعية؟!
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا أن نستقرئ المعني الكامن وراء المعني القانوني المحدود المتعلق بالصياغة القانونية لمجموعة المواد التي تحدد شكل الدولة وعلاقة السلطات ببعضها وحقوق الأفراد. فالخروج بالدستور للمعني الإنساني والمجتمعي الأرحب واعتباره كتاب لحياة المصريين, يكشف أنه عقد اجتماعي لابد أن يمثل مجموعة القيم الأساسية المتفق عليها بين كل أطياف المجتمع, و التي تجسد في مجملها التراكمات الثقافية للمجتمع المصري وما استقر عليه الفكر الإنساني والدساتير السابقة. وأظن أن الوصول لصياغة دستور يمثل كل ذلك يتطلب نقاشا, لا يمكن أن يغيب عنه رموز الفكر المصري ممن يدركون حتمية النقاش الصريح بين مختلف تيارات المجتمع للوصول لتوافق علي المبادئ الأساسية التي تحدد الرؤي المجتمعية والحيز والإطار الذي يتحرك ويلتزم به المواطنون, استعدادا لمرحلة صياغتها في مواد واضحة تصب لصالح الوطن والمواطن.
و هنا وعند هذا الحد وفي سياق كل ما تقدم نجد أنفسنا مطالبين بإجابات عن عدد من الأسئلة, أولها هل صياغة الدستور تتطلب بالفعل مشاركة النخب الفكرية والمبدعين أم أن الأمر محض تزيد منا وأضغاث أحلام؟! وهل يتم بالفعل, بل وعمدا, تغييب المفكرين والمبدعين عن المشهد أم أن هذا الغياب اختيار شخصي من قبلهم؟! ولماذا قطعت النخب الحالية حلقات المشاركة الفعلية في الحياة السياسية التي بدأها الرواد واكتفت بالمشاهدة عن بعد أو التنظير عبر الفضائيات ؟!هل السبب هاجس علاقة المثقف بالسلطة أم طبيعة النظم الدكتاتورية وتفريغ العمل السياسي من مضمونه أم أن النداهة حملتهم بعيدا عن مسقط الرأس فبات من المستحيل حشد الأنصار وخوض الانتخابات, أم أن الأمر يتصل بحسابات المكسب والخسارة المادية والمعنوية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق